الاثنين، 25 يناير 2010

لا ينزلنّ الذليلُ بأرضنا, ولا يقعدنّ الوضيعُ مقاعد الكرام


مذ خلق الله سبحانه وتعالى الخلق وهو يختار للناس خيارهم ليكونوا قوّامين عليهم، هداة لهم بعد أن صقلهم ربّهم بأحسن الصفات، وأرفع الأخلاق، وأنشأهم على عين بصيرة، ليكونوا مهديين ثمّ للعالمين هداة.


صنع آدم عليه السلام على عينه، فكان أول البشر الّداعين إلى الله، ثمّ توالت الأيام وانقلبت السنون، وتلاحقت القرون، فلم يخلُ قرنُ ُ من الهداة المهديين، الداعين إلى الله على عين بصيرة، الذين يُصلحون ما أفسد الناس، يقوّمون المعتقد، ويحيون الموات من القيم الرفيعة، والشيم الحميدة، والأخلاق الكريمة.

كما لم يخلُ زمانُ ُ من أراذل الناس، الوضيعين فكراً ومعتقداً وأخلاقاً
الذين حادوا عن السويّة، واختاروا من مقامات العيش الدونية، وأوغلوا في العميّة، فكانت أنفاسهم فجوراً، وطعامهم الرذيلة، سكناتهم إغواءات شياطين، وكلماتهم نكيرُ ُ على كلّ ما هو خيّرُ ُ كريم.
فكانت الأرض هي معترك الصرع بين الطرفين، بين الهداة المهديين، وشياطين الإنس الضالين المضلين

اختلفت الأسماء، وتقلبت في العيون الأشكال، غير أن المضمون هو المضمون، والصراع هو ذاته مع تغيّر وتغيير في مسمياته وألفاظه
طوت الأرض ما طوت من مصلحين ومفسدين، طوت أجسادا وسطر التاريخ أسماءً وفعالاً.
ولولا أنّ الأرض من شانها أن تضمّ من مات من البشر، للفظت من بطنها أناساً لا يستحقون أن تكون لهم كرامة حتى في بطنها، كما لفظ البحر فرعون ليكون للناس عبرة ومثلا.
فالتاريخ المسطّر في الكتب، سُطّر أيضاً في موروث البشر وذاكرتهم، ذلك أن فعال العابثين المفسدين لها نتائج وثمرات، كما فعال المصلحين الدّاعين إلى الخير لهم ثمرات ونتائج

فئة منهم تلعنهم الألسنة في كلّ ساعة وكلّ حين، من مثل من تذكرهم السنة المؤمنين في صلواتهم تبّوا وتبّت أيديهم، فكانوا من خاسري الدنيا، والمقيمين في عذابات الآخرة!
يُنزلُ الناسُ بعضهم منازل الوقار والاحترام والتبجيل، وينزلون بعضهم الآخر منازل الخزي والعار والشنار.

إبراهيم عليه السلام، غلام لا يأبه له أحد من الناس، ولا يقيمون له وزناً، ولا يلتفت إليه أصحاب البأس والقوة الذين كانت أنظارهم تتطلع إلي ملكهم، وألسنتهم تلهج بحمده والثناء عليه... وهم مع ملكهم يدنسون كرامة بشريتهم وإنسانيتهم بسجودهم لحجارة يعبدونها من دون الله، يرومون رضاها، ويسعون لطلب الغفران منها، يبنون لها بيوتاً ويقيمون لها عروشاً
حطّمها معول شاب يافع، صغير السن عظيم الفعال، ارتقت أقدامه فوق رؤوسهم وما يعبدون من دون الله، فنزل منزلة عجزت الملوك أن تنزلها، وحصّل شاناً ما استطاعت كنوزهم أن تحصّل منه طرفاً. فمن منهم الذي يذكُرُهُ التاريخ ذكراً طيباً، ومن الذي تلعنه الألسن وتستعيذ منه ومن فعاله؟
وذاك الغلام صاحبُ الكاهن بعد الساحر، عرف الحقّ ونزل من نفسه منزلة عظيمة، جعلته يتحدى كلّ من كانوا حوله، ومعتقدهم، ويعاكس مفاهيمهم، ويُخطّيء أفعالهم وعبادتهم
حتى أنطق اللهُ الملك بالحقّ فانقلب حالُ الناس من أتباع للعباد من دون الله إلى أتباع لله وللحق الذي كان ثمن ظهوره وانبعاثه دمُ الغلام ومن ثمّ أجسادُ من حُرّقوا ممن آمنوا بالله.
وأيّ المنازل هي منزلة إبراهيم الغلام؟ وأيّ المنازل هي منزلة الأسياد والملوك في قومهما؟
وشتان شتان بين المنزلين والمنزلتين.

وتتعاقب القرون، وتتغير الأسماء والكنى، وتختلف الوجوه
غير أن الوجود ليس فيه إلا وجهان: وجه الحقّ الذي له جنوده، ووجه الباطل الذي له أيضاّ جنوده
وطالما أن الحديث عن حقّ وعن باطل، فإنّ قانونهما ليس بشرياّ أبداّ، بل قانون رباني وإن جهل الجاهلون وغوى الغاوون
والهدف والغاية التي يسعى إليها الحق متمثلاً بأهله هو " تركيع " الكافرين لله من دون البشر، وللكفر ذاته للنيل منه والقضاء عليه ليكون عيش الناس كلهم خالصاً لخالقهم لا ينازعه فيه منازع إلا قُصم وذل.

فأهل الحقّ أنجاد أمجاد، ورثوه كابراً عن كابر، ذلك أنهم ورثوا الحق وقبضوه بأيديهم فرفعوا راية الأنبياء أصحاب هذا الإرث ولزموا غرزهم وحذوا حذوهم واستعدوا له بكل غال وثمين

فكما قالها علي رضوان الله عليه: أما نحن بنوا هاشم، فابذل لما في أيدينا وأسخى بأنفسنا عند الموت.

وكذا الأصل في المسلمين ورافعي لواء الحق، أبذل لما في أيديهم وأسخى بأنفسهم عند الموت، وفي مقدمتهم الثلة التي أخذت على عاتقها حراسة الدين والذود عن حياضه، وهداية الناس وتعبيدهم لله، ومن ثمّ الدّوس على أعناق المعاندين الفاسدين المفسدين، وإخضاعهم لربّ العالمين طوعاّ أو كرها، المفسدين ممن ادعوا بهتانا وزوراً أنهم أهل الله وهم أعداؤه، وادّعوا بأنهم حملة راية دينه وهم من وطئوها بأقدامهم وانزلوها منازل لا تليق بدعوة الله ولا دينه: تحت أقدام أسيادهم من ملوك ورؤساء، ليرضوهم بغضب الله، ويطلبوا ودهم بسخط ربّ العباد، ويلتمسوا عندهم الحظوة والجاه والمال ضاربين بالمسلمين ومصالح المسلمين عرض الحائط لا يلتفتون إلى معاناة الناس، ولا إلى سلب أموالهم، وهتك إعراضهم إلا ليقولوا لهم: هذا ما اقترفت أيديكم بمخالفتكم أوامر ولاة أموركم!
 
فمن يأكل من صحن السلطان يضرب بعصاه، تلك سنّة سنوها لأنفسهم، حتى لو كان السلطان فاجراّ وصحنه مليء بأجساد المسلمين ودمائهم، وقهرهم ومعاناتهم، وذلهم وخضوعهم


وحتى لو كانت عصاته لا تجلد إلا كلّ ورع تقي نقي، ولا تعتقل إلا كلّ منافح عن دين الله صادع بالحق، ولا تنزل على الأجساد الطاهرة المؤمنة إلا كأسباط من لهب ونار
رغم كلّ ذلك فإن من يأكل من صحن السلطان فلا بدّ أن يضرب بعصاه ! ألا ساء ما تحكمون
ألا شاهت وجوهُ ُ مسودّة مكفهرة من إسخاطها لله وتعديها على حرماته وحرمات عباده
ألا شاهت وجوه أصبحت ترى دماء المسلمين ماء، وترى دماء أعدائهم دما
هل دمُنا ماءُ ُ وهل دمُهُم دمُ ؟
هل نحن أشياء وهل بشرُ ُ هُمُ ؟

إنّ من يتألى على الله ليس كمن يبذلُ نفسه وماله ووقته لله وفي طاعته
إنّ من جعل من نفسه خادماً للسلطان واضعاً على الرأس عمامة يدعي بها الوقار والدين والحكمة، ليس كمن تجرّد لله وباع دنياه ليشتري رضي الله وآخرته

إن من اختار لنفسه منازل الذلّ بتبعيته لحكام الذلة والمهانة فأصبح " شيخاً " تحت أقدامهم يمسح بلاطهم وما تناثر عليه من آثار تبعية وانقياد لأعداء الله، ليس كمن أوقف نفسه وكلّ ما يملك لحراسة الدين وتبليغ شريعة الله

تلكما المنزلتين منازل
ولكن شتان بين منزلة لا تجلب لصاحبها إلا ذلا وهوانا وتبعية وانقيادا لمن يحاربون الله ورسوله، ويصلون ليلهم بنهارهم تفكيراً وتدبيراً ورسم خطط لاعتقال وتعذيب وتحقير وإهانة أولياء الله
وبين منزلة ورثة الأنبياء، المخلصين لله ولدينه ولرسوله الكريم وللمؤمنين، أعينهم تفيض من الدمع من خشية الله والتضرع إليه والعمل وفق شرعه لإعزاز الدين وأهله ورفع لواء الحق ليغطي على كل رايات الفجور والحرب على الله ودين الله

فأصحاب المنزلة الأولى، أهل الذلة والهوان، وتضييع الحرمات والكرامات، يجب أن يوضعوا موضعهم، ويُنزّلوا منازلهم، ولا يُمكّنوا من أن يتطاولوا على مقامات أهل الحق، الأنقياء الأتقياء
ليعرف الذليلُ منهم موقعه والوضيعُ مكانه.
الحكام منهم، وعناوين الخصاء الفكري من مثقفيهم وكتابهم، والذليلين بائعي الدين بثمن بخس ومحرفيه ممن يحبون أن يسميهم الناس شيوخاً وعلماء ومفتين
مزوري الدين، المختصين بفنً ليّ أعناق نصوص دين الله ليتمكنوا من إدخالها من أبواب الحكام ونوافذ قصورهم ليرضوهم ويستجدوا عندهم الحظوات كما كنّ بائعات الهوى في عصور غابرة.

هؤلاء وأمثالهم، الذين بلغهم دين الله ودعوات أولياء الله ونصائحهم ولم تجد في قلوبهم مقعدا ولا في عقولهم حظاً من الفهم والإتباع والانقياد

لا بدّ أن يعلموا وأن يُسمعهم أولياء الله في أنفسهم قولاً بليغاً يُذهبون به عنهم وساوس شياطينهم، ليُبعدوهم عن ضلالهم وفجورهم، ويُخرجوهم من سطوة حكام الجور والضلال، ويُبعدوا  بينهم وبين بلاط السلطان و " فراش " الحاكم الذي يشاركونه إياه والمخصص لعملية تلقيح وتنقيح الأفكار الشيطانية التي يخرجون بها لكيفية التصدي لكل من قال لا اله إلا الله محمد رسول الله رافعاً لواء الحق في وجه ألوية الطاغوت.


(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)