الأحد، 8 يوليو 2012

مَن لهذه الدائرة فيكسرها ويُعتق مَن بداخلها؟



لا شك أنّ كلاّ منّا قد مرّت لحظات – طالت أو قصُرت –
 في حياته شعر فيها أنه محتاج إلى أن ينعزل عن الناس
 ويتّخذ مكاناً قصيّاً أو يتّخذ من دون الناس حجاباً فلا يراهم
 ولا يرونه، وتتعدّد الأسباب لذلك، فمنها ما يكون طلباً للراحة
 أو للهروب من مشكلة استعصت عليه أو لِهَمّ وغمّ أصابه
قد يدري أو لا يدري سببه، أو للتأمّل والتفكّر في أمر يحتاج
صفاء ذهنٍ، أو لإحباطٍ أصابه ...إلى غير ذلك من الأسباب!!
وهذه من الأمور التي لا يُنكر مِثلُها، ولا يُعاب على صاحِبِها
 إلا إن كانت يأساً أو قنوطاً أو هروباً!!
وقد يصل الحال ببعض الناس أن "يسجن نفسه" معنوياً،
 أي أن يتهيأ أنه داخل قفص حديديّ لا يستطيع الخروج منه،
وهو في هذه الحالة إمّا أن يقاوم أو يستسلم.

ولا يمكن أن يصل أحدنا إلى هذه الحالة الهائلة من الانغلاق
 إلا لسبب من سببين:
الأول: أن يصل به الحال من التشاؤم والإحباط والانتكاس
 والقنوط – لأي سبب كان – إلى الشعور بالعجز التام وفقدان
 القدرة على التفكير السليم فيصبح سجين نفسه بنفسه.

والثاني: أن تكون ثقافة سجن الذات هي التي يتشرّبها ويتمّ تثقيفه
 بها عن رضى وقناعة أو عن جهل مدقع!!

والسبب الثاني هذا هو الذي أريد إبرازه والحديث عنه،
 إذ أنّ له أشكالاً وأنماطاً متعددة ومختلفة، وله منهجية "ثقافية"
يتمّ ضخّها إلى الأدمغة بشكل مدروس محدّد!!
فلو تناولنا على سبيل المثال لا الحصر ثقافة السجن والانغلاق
 المنهجية المتعلقة بدراسة تاريخ المسلمين
المعمول بها  في بلاد المسلمين نجد أن نمط الدراسة
ومادّتها توحيان للطالب – على اختلاف مراحل تعليمه – أنّ
 تاريخ المسلمين يغوص في غياهب الجهل والأميّة والتخلّف
وأنهم في ذيل قائمة الأمم والشعوب وأنهم منغلقون على أنفسهم
 ومنغلقون على جهلهم، لا يستطيعون ولم يستطيعوا أن يقدّموا
 للبشرية أكثر من حليب النوق وصنع الخيام وعدّة القتل والقتال
 من سيوف ورماح وما شابه ذلك!!
ويندر أن تجد منهجيةً صحيحة تسلّط الضوء بوضوح وجلاء
على تاريخٍ امتدّ أمده أربعة عشر قرناً من الزمان
ففي حين أن كثيراً من الغربيين يسندون الفضل لأهله حين
 يتحدثون بنزاهة وأمانة علمية عمّا قدّمه العرب والمسلمون
 للبشرية من اختراعاتٍ ومن حضارةٍ، تجد أصحاب الفكر
 التابعِ محبّي الغرب وتقليده تقليداً أعمى يوغلون في مقت
 تاريخهم وحضارتهم وإنجازاتهم فيقومون بتقزيمها خدمة
 للفكر المنحرف الذي يحملونه، فترى انعكاس ثقافتهم تلك
في نفوس وعقليات من يتشرّبون منهم هذه النمطية الممنهجة
 في المدارس والجامعات
وتكون النتيجة أنّهم – إلا من رحم ربي منهم وفتح عليهم –
يخجلون من تاريخهم وحضارتهم ويستحيون من الحديث عنها
 حين الخوض في إنجازات الأمم والشعوب ظنّاً منهم أنه
 لا بضاعة عندهم يدلون برأيهم بخصوصها! وعندما يفكّرون
 في أنفسهم وتاريخ أمّتهم لا يخرجون في تفكيرهم خارج
" الصندوق" الذي وضعهم فيه وقيّدهم به أولئك المدرّسون
 فيصبحوا رهن القيد والسجن الفكري والثقافيّ ذاك!!
فقد أحكمَت تلك الثقافة المنهجية الهابطة التي يتمّ تثقيفهم بها
 السيطرة عليهم وعلى عقولهم، وقبلوا أن توضع القيود في
 أيديهم وعلى عقولهم بعد أن تمّت " شيطنة " تاريخهم
 وحضارتهم.

ولكم أن تتخيّلوا معي نوعية ذاك الجيل الذي سينشأ في الأمّة
وهو على تلك الحال!!
ومن هنا أقفز إلى منهجية وثقافة " سجن الذات " الأخرى التي
 أود الوصول إليها تلك المنهجية التي لا تقلّ خطراً عن الأولى،
 رغم أن الواحدة منها ذاتُ علاقة بالأخرى، تلك المتمثّلة في
نوعية " الثقافة العسكرية " التي يتلقاها أبناء المسلمين حين
 يلتحقون بالكليات العسكرية أو يلتحقون بالسلك العسكري
عموماً، فلا ريب أنهم يتلقّون ثقافة ما، ولا ينخرطون في
 صفوف العاملين في أجهزة الدولة الأمنية على اختلاف
مؤسساتها إلا بعد أن يمرّوا في فترة إعداد وتجهيز يُشرف
عليها طاقم يفهم عمله جيداً ويدرك الغاية التي يريد أن يوصلَ
 هؤلاء الأفراد إليها، فيعملون على إخضاع الجميع دون
 استثناء إلى منهجية تدريس وبناء فكريّ ونفسيّ يحققون
من خلالها نوعية العقليات والنفسيات التي يريدون بناءها
على عين بصيرة،  فكما أنّ لدراسة الهندسة برنامج يوضع
 للدارسين، فكذا في الطبّ وغيره من العلوم، والعسكرية
لا تشذّ عن هذه القاعدة.
ولأني لست من المتخصّصين في مجال الثقافة العسكرية
وما يتمّ خلالها، فلنا أن نقفز إلى ما نراه من حال من دخلوا
 هذا المجال لنستطيع أن نستكشف -ولو بنسبة من الصحّة
لا بأس بها- ما الذي تمّ تربيتهم عليه وإخضاعهم له من
 برامج فكرية وثقافية فضلاً عن البرامج التقنية المتعلقة
 بهذا المجال العسكري،
فمثلاً:
* حماية الأرض في أيّ كيان من الكيانات هو أمر أساسيّ
 – أو هكذا الأصل – على العسكريين أن لا يتهاونوا ولا
 يتساهلوا فيه مطلقاً، وهو خطّ أحمر لا يجوز بحال أن
 يتخطّاه أحد!!
وبالنظر إلى ما هو حاصل نجد أن الكيانات المشرذمة في
 بلاد المسلمين لا تقف عند حدّ من التشرذم والانقسام
 المستمر، فتجد البلد الواحدة أصبحت بلدين والدولة دولتين،
 وتجد أن " العدو " يسرح ويمرح فيها ولا يتحرّك لهم ساكن
ولا تخرج طَلقة من بيت النار، ولا تُطلق صفارة إنذار
 تقول لسامعها: الوطن في خطر!!
أمّا حين تُشتمّ رائحةُ تهديد للحاكم أو الرئيس أو الملك تستنفر
 الدولة كلّ عناصرها وأجهزتها فتعيث في الأرض الفساد:
 تُطارد وتعتقل وتقتل ولو بالشبهة...لأن الحاكم وأمنه في
 خطر أو مظنّة الخطر!!

* إن صدرت لها الأوامر بالقتل تقتل، وإن صدرت لها
 الأوامر بالهدم تهدم، وإن صدرت لها الأوامر بانتهاك
الأعراض والحرمات تنتهك!! والمسوّغ والحجّة: حماية
أمن البلد!!



فما هي يا ترى نوعية الثقافة العسكرية تلك المعمول
بها في بلاد المسلمين؟
وهل تصل إلى حدّ إغلاق العقول وتغليف القلوب؟
تُرى في أيّ وادٍ من أودية الأدمغة السحيقة تمّ سجن أصحاب
 تلك العقول؟
أم أنه تمّ قتلها ووأدها أثناء منهجية التثقيف العسكرية التي
 تثقّفوا بها؟! فتمّ رسم دائرة حولها وحول أصحابها – كما
في الأساطير – فلا يستطيعون كسر تلك الدائرة فضلا
عن أن يخرجوا منها؟!
فلو أشرنا لهم بالبنان إلى الدماء القانية النازفة التي تُراق
على أيدي حماة الأوطان هؤلاء فهل سيكسرون الطوق ويخرجوا
 من الدائرة التي سجنوا أنفسهم داخلها؟
وهل لو أسمعناهم صرخات الحرائر اللائي يغتصبوهنّ فهل
 سيكسرون الطوق الوهمي الذي كبّلهم به سادتهم برضاهم
أو جبراً عنهم فيخرجوا من غياهب استعبادهم الفكري  إلى
 العالم الواقعيّ الذي فيه كلّ شواهد إجرامهم وإجرام حكّامهم؟
الكلاب – أعزّكم الله – لا تقبل لنفسها أن تكون مقيّدة داخل
 دائرة وهمية لا تخرج منها حين يُهدّدها أو يُهدّد بني جنسها
 خطر فما بالكم بالبشر؟!
فهل يُعقل أن تنحطّ آدمية أحدهم إلى درجة يصبح فيها
 أسيراً لأمرٍ من الأوامر أو لرتبة من الرتب أو لكلمة
 من حاكم أو آمرٍ وينسى أصل عمله وغاية وظيفته
 وهي الحفاظ على الأرض والعرض والذود عن بني
 دينه وجلدته؟!
كنت أستغرب تلك الأساطير التي تقول: أن أحدهم يرسم
 دائرة حول شخص فيأمره أن لا يخرج منها، فيقع في
 روع المسجون داخلها أنه محاط بأسوار من فولاذ وحديد
 لا يستطيع منها انعتاقاً!!
لكني الآن صدّقت بوجود مثل تلك العقليات المنحطّة الحيوانية
 التي لا تعترف بقيمتها ولا اعتبار عندها لإنسانيها ولا لأيّ
 معنى من معاني الكرامة والعزّة.