الجمعة، 5 فبراير 2010

"تجفيف منابع التديّن" مشروع قديم متجدّد



لا يختلف اثنان من الباحثين في قضايا " الإسلام السياسي"  أن مؤسسات الفكر الغربية بذلت وتبذل مجهودات هائلةً في إثارة هذه المسألة ووضعها على رأس أجندة أعمالها، بحثاً وتمحيصاُ وخروجاً بتوصيات وإرشادات سواء لمراكز القرار في بلادها أو للأنظمة في بلاد المسلمين، لكي يولوا هذه المسألة الحساسة أهمية بالغة، وقد صاغت مؤسسات الفكر هذه (Think Tanks ) كيفية التعاطي مع العالم والأحداث لمدة تزيد عن المائة عام. http://www.venusproject.com/ecs/world_news/think_tank_list.html 

وبالرغم من أنّ هذه المؤسسات لا تقع تحت أضواء الإعلام بشكل يُظهرُ فيه عملها وخطورتها، إلا انها تؤثر وبشكل قوي على صانعي السياسة الأمريكية من خلال عدة طرق أهمها:

1- توليد أفكار وخيارات مبتكرة في السياسة الخارجية:
وقد كانت أكثر الأمثلة شهرة على هذا ما حدث بعد انتخابات عام1980، عندما تبنت حكومة رونالد ريجان مطبوعة مؤسسة هيرتيج (Heritage Foundation) عنوانها "تفويض للتغيير" كبرنامج عمل للحكم. و هناك حالة ثانية أكثر حداثة تمثلت في صدور تقرير سنة 1992 أعده معهد الاقتصاديات الدولية و مؤسسة كارينجي للسلام الدولي (Carnegie Endowment For International Peace) يقترح إنشاء مجلس امن اقتصادي و قد وضعت إدارة كلينتون التي تسلمت الحكم فيما بعد هذا الاقتراح موضع التنفيذ بإنشائها المجلس الاقتصادي (هذا الجهاز مازال يعمل الي يومنا هذا).

2- تأمين مجموعة جاهزة من الاختصاصيين للعمل في الحكومة:
فقد قام عل سبيل المثال الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بعد انتخابه في عام 1976 بتعيين الكثير من خبراء مؤسسة بروكنجز و مجلس العلاقات الخارجية في حكومته، و بعدها بأربع سنوات توجه رونالد ريجان الي مؤسسات أخري لتشكيل هيئة خبرته و مستشاريه. فقد استعان خلال فترتيه الرئاستين بمائة و خمسين شخصاً من مؤسسة هيرتيج و مؤسسة هوفر و معهد انتربرايز الامريكي. كما اتبع الرئيس الأمريكي الحالي (بوش الابن) في تعين الخبراء و المستشارين في حكومته السابقة و الحالية نفس النمط.

3- رعاية الحوارات والنقاشات والتوسط بين الحكومة والإطراف المعنية لتسهيل تمرير السياسات الأمريكية تحت مسميات من مثل: مؤسسات حل النزاعات والصراعات.

مؤسسات من مثل " كارنيجي" و " مركز نيكسون" من المؤسسات التي كان لها دور بارز في تناول قضايا حساسة في عالمنا الاسلامي مثل قضية مناهج التعليم والمواضيع المقررة فيه، ما دعا الحكومات الغربية منذ زمن وإلى أيامنا هذه للتركيز على أن هذه المناهج تشكل منبعاً من منابع الكراهية وتأصيل العداوة فبالتالي يلزم النظر فيها وإعادة صياغتها لتلائم العصر والانفتاح الحضاري بين دول العالم!!
ما حدا بالأنظمة في عالمنا الإسلامي أن يهرعوا ملبين ذاك الطلب، فعملوا على تغيير ملحوظ في المناهج المدرسية والجامعية طال آيات من القرآن الكريم حذفاً أو اختصاراً كما طال أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأعيدت صياغة بعض المواد المنهجية لتلائم ذاك الأمر الصادر إليهم سؤاء في القضايا التاريخية أو الجغرافية وبالطبع القضايا السياسية.

الإسلام المعتدل من ضمن طروحات مراكز الفكر:

  نشرت مجلة Commentary الأمريكية في عدد شباط  2008 وتحت عنوان "In Search of Moderate Islam" في سبيل البحث عن إسلام معتدل- الأولى من نوعها التي تبحث في سبيل إيجاد تيار إسلامي معتدل، بل تعددت الدراسات وتنوعت في هذا الاتجاه، وخاصة خلال الفترة القليلة الماضية، فقد أصدرت مؤسسة Rand Corporation -التي تعد واحدة من أهم مراكز الأفكار في العالم وأحد أهم المؤسسات الفكرية المؤثرة في صناعة القرار في الإدارة الأمريكية خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط- دراسة في نهاية آذار 2007 تحت عنوان: "بناء شبكات إسلامية معتدلة" "Building Moderate Muslim Networks" والتي كانت عبارة عن تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ بإصدارها هذا المركز في إطار تحديد الأسس الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
حاول الكاتبان ( جوشوا مورافشيك وشارلزبي سزروم) جاهدين تفسير مفهوم الاعتدال على أن كلمة معتدل تشير إلى كمية أو درجة أقل من الشيء، وهو تعريف غامض ولا يستقيم أصلا مع سياق الموضوع هذا؛ وذلك لأن الاعتدال مفهوم في هذا السياق يعني "الوسطية"، لا كما أراده الكاتبان والذي يشير مباشرة إلى أن الاعتدال هو التخفيف من درجة الشيء.

وللحكم على الأفراد أو الجماعات بأنهم معتدلين أم غير معتدلين، وضعت الدراسة عدة معايير على شكل أسئلة:

هل تعتنق هذه الجماعة الديمقراطية وتمارسها في هياكلها الداخلية؟
هل تنبذ العنف في سعيها لتحقيق أهدافها؟
هل تدين الإرهاب؟
هل تدافع عن حقوق متساوية للأقليات؟
هل تدافع عن حقوق متساوية للمرأة؟
هل تقبل تعددية التفسيرات داخل الإسلام؟

وبالطبع فان تلك المصطلحات من ديمقراطية وعنف وإرهاب وحقوق إنسان وتعددية إنما تخضع لمفاهيمهم هم لا إلى مفاهيمنا نحن في العالم الإسلامي، وبناء عليها يتم تصنيف الجماعات ووضعها في خانتها للتعامل معها وفق ما وُضع لها من سياسة تعامل عند أمريكا والغرب.

وقد لبى - للأسف - عدد لا بأس به  من الكتّاب والمثقفين والعلماء والشيوخ كثيراّ من تلك المتطلبات حتى لا يُصنّفوا بأنهم إرهابيون أو غير حضاريين !!
الأمر الذي زاد عندنا في بلادنا أعداد المحرفين والمزيفين للتاريخ والحضارة و...الدين.
ومن نماذج الإسلاميين المعتدلين - وهي كثيرة - هناك جماعة حزب الوسطية الجديدة في الأراضي الفلسطينية الذي أسسه محمد دجاني مدير مركز الدراسات الأمريكية في جامعة القدس برام الله والذي كان عضوًا سابقًا في حركة فتح، ويمثل هذا الحزب محاولة لخلق بديل لكل من فتح وحماس، فيدعو دجاني إلى حل الدولتين والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وبالنسبة لحق العودة يقول: "لماذا نضع كل هذه العقبات في طريق السلام؟"

تجفيف منابع التديّن :
أو قل: تجفيف منابع الدّين
تلك خطة معمول بها بكل جدّ وحزم ومنهجية
هدفها إبعاد المسلمين عن أصل دينهم ومحو حضارتهم من أذهانهم
وجعل المنهجية الفكرية عند المسلمين تُبنى على أساس من الثقافة الغربية والقناعات والمفاهيم الغربية
واستبعاد نصوص الشرع القطعية منها قبل الظنية من أن تكون مرجعاً بين الناس

ومن أسباب وجود هذه الخطّة: شعور الغرب بتهديد الإسلام السياسي ونموه المضطرد المتنامي بين المسلمين، ذلك أنه تناول ويتناول القضايا الحساسة والمصيرية والتي تلامس حياة الناس بشكل واضح جلي، واضعاً الإصبع - الإسلام السياسي- على المرض الذي تعاني منه الأمة، وواضعاً في ذات الوقت الحلول الكفيلة بتخليصهم مما هم فيه
صحيح أن مصطلح الإسلام السياسي يحتمل معان عدة في أذهان الناس، إلا ان المقصود منه عند من يحاربون هم المسلمون الذي يحملون همّ الأمة الإسلامية - كلّ الأمة - ويعملون على تخليصها من براثن الغرب دون أن يعيروا المكان أي اهتمام، أي دون أن يقتصر عمل " المسلمين السياسيين " على بؤرة دون غيرها أو على بلد دون غيره، بمعنى آخر: هم المسلمون الذين لا تقوم دعوتهم على أساس من الوطنية أو القومية
ولا أرى جماعة ينطبق عليها هذا التوصيف غير " حزب التحرير " الذي يقوم على منطلقات شرعية لا تخفى على الباحث النزيه خالي الشهوة متحري الحقيقة والدقّة، ولا أقصد من هذا أنه لا يوجد من المسلمين من يحمل هذا الهمّ بفرديته، إنما الحديث عن جماعة وحزب، لذا فإن الإنطباق أراه لا يتنزّل إلا على حزب عالمي ذو رؤية واضحة جلية، وهدف مرسوم مخطوط بوضوح لا يعتريه فيه شك، ولا يُبنى في كلياته وجزئياته إلا على أساس شرع الله تبارك في علاه.


ومن أبرز الأنظمة في العالم الإسلامي التي وضعت أجندة واضحة لمسألة " تجفيف منابع التديّن" هي تونس
حيث بدأت العمل في هذه الخطة منذ العام 1989 م.

ركزت فيها على الأسباب والأهداف والغايات
وعلمت أهمية المدارس والمساجد والجامعات في التوعية وبثّ روح الإسلام، فحرصت كلّ الحرص على إفراغها من مضمونها، ووضعت لذلك خطة وحشدت لها جيوشاً من المدرسين والكتاب والعلماء والأئم الذين رضوا بأن يكونوا أداتها في محارية الدين والتدين ودعاة التغيير والنهضة

كماتحذوا حذوها اليوم " السلطة الفلسطينية " التي لم تنعتق بعدُ من احتلال بني يهود لها
فهم - بنو يهود - لا يحتلون الأرض فقط، بل أصبحوا يحتلون عقول وقلوب رموز السلطة وأعوانها، ويملؤون منهم العقول والعيون، بحيث أصبحوا ساعدهم في محاولة تجفيف منابع التدين والتصدي لدعاة الحق، في المساجد والمدارس والجامعات، سناً للقوانين، ومنعاً لاعتلاء المنابر إلا لمن رضخ لهم وقبل بهم وأخلص لمنهجهم في الوقوف في وجه الدعاة إلى الله تعالى.

إنّ مسألة " تجفيف منابع التدين " لكي تنجح وتؤتي ثمارها كما يريدها الغرب والأنظمة العميلة له في بلاد المسلمين، يجب أن ينجحوا  في التخلص من القرآن الكريم كمنهج ومرجعية للمسلمين
والتخلص من السنة النبوية المطهرة كحادية لدرب المخلصين
فأن قدروا على ذلك كان لهم ما أرادوا هم وأعوانهم
ولكي يقدروا على ذلك يلزمهم أن يعلموا أن من يتحدونه ويحاربونه ويقفون في وججه في هكذا خطة هو الله تبارك في علاه
فهذا قرآنه
وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه هي وحي من عنده
والمسلمون الحقّ يُشكلّ قرآن الله تعالى وسنة نبيه سرّ حياتهم وغاية وجودهم
وطالما أن الحال كذلك فإنهم لن يقدروا على شيء
ولن يُفلح كيدُ الكافرين ولا كيدُ أعوانهم
والغلبة بإذن الله تبارك في علاه هي لعباد الله ولدين الله