قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]
اقتضت حكمة الله البالغة أن لا يجعل أمر هذا الدّين إلا في أيدي صفوته من عباده، وأمر هذا الدّين هو أخذه بحقه، حمله بقوّة وجعله الظاهر على الدّين كله ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون، ولو كره الملفّقون.
وحتّى يتأتى ذلك ويستقر، كان لا بدّ من سنة ربانية لا تتخلّف، وهي سنّة التمييز والتمايز، فالله سبحانه هو العليم بعباده وما في قلوبهم، هو الخبير بمن خلق، غير أنّ تحقّق سنة التمايز لا يُظهرها للناس علم الله الغيبي بالبشر وطبائعهم، بل الذي يظهرها ويكشفها هو علمُ الشهادة، بوقوع حال المسلم وقوعاً ظاهراً مشاهداً بين الناس، تتبين معانيه ومعالمه من الأقوال والأفعال الظاهرة الواقعة تحت المعاينة البشرية لا الغيبية الربانية فقط، ولأنّ دين الله سبحانه وتعالى لا يختلف في أصوله وكلّيّاته اثنان استوت عقولهما على نهج سوي قويم سليم، ولا ترتقي الاختلافات الفرعية فيه إلى حدّ التنافر والتضادّ لذا كان استواء الأفهام واستقامتها على حسب دين الله أمراً آكدا لا يُسمح فيه إلا بأن يسير المسلمون كلّهم على نهج سليم قويم، وكذا حال الجماعات الإسلامية لناحية خلوص العمل فيها لله، فلا يُقبلُ عمل حركات وجماعات إن لم يستقم أمرها على نهج رباني واضح، والجماعة الواحدة لا يستقيم كذلك أن يختلط عند أفرادها إيمان مع نفاق، ولا طاعة مع معصية، ولا انضباط وفق شرع الله وأحكامه مع تلويث فكري أو عقدي أو منهجي، كما لا يستقيم فيها الخلط – صغر أو عظم- بين ما هو من عند الله وما هو من عند البشر، وهذا التضارب إن حصل فإنه لا تخفيه مظاهر التنسّك والعمل بالسُنن، فليس من سنّة الله تعالى أن تكون ظاهر الأعمال في كلّ الأوقات والأحوال محل تعمية على الناس فلا يستطيعون معها التفريق بين مؤمن ومنافق وبين طائعٍ وعاصٍ، ومن هنا كانت سنة الخالق في التمييز بين الخبيث وبين الطيّب، ذلك أن المقصود – في الأصل – من وجود الجماعة هو تحقيق أمر الله سبحانه ورفع رايته وإقامة دينه، وهذه لا يقول بها ولا يصل إلى أسمى المبتغى فيها إلا من نقّاهم الله سبحانه من الخبث وتوطّدت نفوسهم على الطيّب فقط، وصدّق ذلك كلّه أفعالُهم ومواقفهم في عسرهم ويسرهم، في راحتهم كما في أزماتهم، في صغائر أمورهم وعظائمها، والتمييز يعني في معناه العام التفريق بين العناصر التي تكون متشابهة في بعض المظاهر ولكنها مختلفة في الحقيقة، فيقع الفرز بينها تبعا لما يتكشف من الحقائق التي تكون مستورة عندما تكون الأجواء راكدة والارتباط غير مُكلِف، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]
وكما أن المجتمع الملائكي عند بني البشر يستحيل وجوده، فكذا الحال عند الجماعة يستحيل أن يتّصف أفرادها بالملائكيّة، فهم بشر يصيبون ويخطئون، غير أن الإصابة والخطأ لهما انضباط منهجي ثابت واضح عند الجماعة، غير زئبقي ولا رمادي، إن أصاب الأفراد يكون ذلك وفق ضوابط الجماعة الموصوفة تلك، وإن أخطأوا فهو أيضا وفق تلك الضوابط، فهي مقياس الصحّة من الخطأ بناءً على أساسها الذي قامت عليه، فلا يجوز بحال من الأحوال أن تتصارع أفهام الجماعة في مسألة واحدة وقضيّة واحدة فلا يُعرف فيها صواب من غيره، فيعتبر الأفراد حينها أن الصواب صواب وأن الخطأ أيضاً صواب لأنهما تُركا للأفهام الفردية تتناولها من الزاوية التي تحبّ وتهوى، لا أن تتناولها من منظور واحد واضح، فإن حصل ذلك فإنّ الخلل يكون في الجذور لا الفروع، وفي الأساس ذاته الذي تقوم عليه هذه الجماعة أو تلك.
ولأن النتائج تترتّب على العمل، فإن العمل هنا هو محل البحث، ولأن الأساس يتحدد ابتداءً قبل القيام بالعمل، فإن العمل هنا تابعٌ لغيره ومنبثق أو مبني عليه، فإن صلُح الأساس للجماعة فإن أفعال الأفراد تنضبط وتستقيم بحسبه، وتكون تلك الأفعال محل تمحيص ومتابعة دائمتين كي يستقيم المنهج كلّه أساساً وعملاً، أمّا إن شاب الأساس الشوائب وعلقت به العوالق وتمكنت منه فليس من سلامة العقل البحث في سلامة الأفعال وانضباطها فقد وقع الخلل في الضابط ذاته ولا عبرة لما يُبنى عليه.
ومن لوازم التمايز في الجماعة " الابتلاء "، فكما لا يظهر المعدن الثمين ظهوراً بارقاً يبهر الأبصار إلا بعد دقّه وتعريضه للنار، فكذا الثوابت والأسس لا تتمكّن من النفوس ولا تستقر في القلوب تمكّناً واستقراراً موحيان بالقناعة والاعتقاد إلا حين الامتحان والتعرّض للمواقف الحاّرة الشديدة، فإن استقرت دون زعزعة أو شكّ يُقال حينها أن السلامة في الأسّ والعمل حاصلة عند الجماعة كما عند أفرادها، وإن اهتزت الجماعة ذاتها كان الزلزال العظيم الذي سيأتي عليها عاجلاً أو آجلاً، وأمّا إن ثبتت الجماعة على أساسها لم تتزعزع ولكن حصل الاهتزاز عند أفراد منها فإن التمايز هنا تحقيق لسنة الخالق استخراجاً للخبيث من بين الطيّب لينبذه لتعود الصحّة والعافية للجماعة على وجه أفضل وأسلم مما كانت عليه.
ويوم حنين شاهد على معنى الثبات على الحق والاتكال على الله حقّ التوكّل،ففي حين أن جماعة المسلمين بالعموم كانوا على خير بالنسبة لإيمانهم بالله العظيم وبرسالة محمد صلوات ربي وسلامه عيه، إلا أن الاعتزاز بالنفس وبالعدد وبالقوّة والتغييب اللحظيّ من الأذهان بأنه العدد لا يغني عن أمر الله شيئاً فقد حصل ما حصل
فقال ربّ العالمين: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) مع أنه سبق هذا الموقفَ مواقفٌ كان المسلمون فيها أقلّ عدداً وعدّة فنصرهم الله، فلما دخل في قلوب بعضهم شائبة أسندوا فيها النصر لعددهم وقوّتهم كان الردّ من ربّ العالمين أن ذكّرهم به وبأن الأمر كلّه له فكانت العبرة وكان الدرس والعظة.
وهذا الموقف كان على خلاف موقفٍ سبقه، كان موقفاً عظيماً تشيب من هوله الولدان، وتتحطّم فيه الرجولة الزائفة وينكشف عوارها، كان موقفاً لا يصمد فيه إلا من أخلص لله وباع نفسه فيه لله، يصف الله سبحانه وتعالى ذاك الموقف العظيم في كتابه العظيم فيقول:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]
فهو امتحان عظيم، وابتلاء عزّ نظيره، غير أنه سنّة من ربّ العباد ليصفّي من خلاله أهل دينه من كلّ خبثٍ وخبيث، وليحصل التمييز عند المسلمين وعند الناس بين عباد الله الذين استقاموا على أمره، وبين من كان ثباتهم على أمر الله مجرّد زعمٍ وادّعاء لم يجاوز حلاقيمهم...وبعد أن كان المشكّكون بأمر الله يستترون بتلك الكتلة ويزعمون أنهم منها ومن جنسها ظهر للعيان معدنهم عند المحنة ونطقت ألسنتهم بما كانت تخفي صدورهم، فيقول الله تعالى على لسانهم:
{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}[الأحزاب:12]
وموقفهم هذا فيه ما فيه من الخبث الكامن في نفوسهم، كما فيه التخذيل للمسلمين في هذا الموقف الحرج العصيب.
غير أن حالهم هذا لم يكن له أثر في قلوبٍ آمنت بربها في السرّاء، وتبلور الإيمان ذاك في قلوبهم ناصعاً طيّباً زكيّاً في الضّراء فكان باطنهم وظاهرهم واحد، فقال عنهم ربّ العالمين على لسانهم:
{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]
وحال الناس في الثبات على المنهج من عدمه لا يختلف عن الحالة هذه، ذلك أنه لا عبرة بما يقول اللسان دون أن يصدّقه الحال في المواقف والأزمات والمحن، فلا يعنيني كمسلمٍ أن يؤلّف أحدهم مجلّداتٍ في الصبر والثبات ثمّ لمّا تنزل به نازلة أو يعتريه همّ وكمد أو يتعرّض لموقف لا يحتملً إلا أن يُقال في الحقّ أو يتّخذُ فيه موقف يرضي الله تعالى على حساب غضب الناس تراه يداهن وينافق ويرمي بكلمات رماديّة توحي بالحقّ وتوحي بالباطل في الوقت ذاته إرضاء للناس وإخراجاً لنفسه من هذا الموقف،
والأنكى من ذلك والأدهى أن يباشر بالتبرير وإلقاء المعاذير وسرد التفسيرات التي تتناسب مع موقف التخاذل الذي عاشه، بل ويصرّ على سلامة منهجه وصواب الخاطئ من أفعاله وأقواله بغوغائية لا تستقبلها العقول السليمة إلا بالاشمئزاز!!
وهذا الحال كذلك ينطبق على الجماعات الإسلامية العالمة في ساحة المسلمين في كلّ بلادهم، فمنها الثابتة ومنها غير ذلك، والثبات لا يجوز بحال من الأحوال أن يخضع لقانون النسبية، لا نسبية المكان ولا الزمان ولا نسبية الحال، ذلك أنها إن خضعت لهذا القانون جعلت نفسها إناءً يتسع لكل المتناقضات، وقبلت على نفسها أن لا تستقيم على حال واحد، قد نستطيع فهمَ أنّ هذه الجماعة أو تلك لا تناقض نفسها إن كانت متفاوتةً في مواقفها من مكان لمكان ومن حال إلى حال، نستطيع أن نفهم ذلك فقط من زاوية واحدة وهي أنّها في ذاتها وفي أصل وجودها وكينونتها لم تتأسّس على ثوابت، وكانت نشأتها تحتمل هذه المذاهب، فمن الطبيعي حينها أن يكون ارتقاؤها بحسب إنشائها قائماً على ذات الأساس عديم الوضوح فاقد القواعد !!
وعند البحث في الأسباب والدواعي لهكذا حالٍ يتّسم بالضياع وعدم الوضوح المخلّ نجد أن الفهم غير المستقيم وغير السليم لدين الله تعالى هو موضع الخلل ومكمن المرض، ذلك أنّ دين الله تعالى لا يحتمل التناقضات، ولا يحتمل الأفهام السقيمة، كما لا يحتمل أن يكون محلّ تفريط أو مهادنة مع نقيضه في أيّ وقت وأيّ حال
فالله عزّ من قائل قرّر متى يكون الحقّ وكيف بقوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) الجنّ)...إذن، الاستقامة على المنهج في أصله وفروعه مدعاة للنجاة والفلاح، ومنه نفهم أنه لا نجاح ولا فلاح ولا حقّ إن تخللت الأسُسَ انحرافات عن النهج القويم. فمن جملة معاني الوصول إلى الغاية السليمة الصحيحة أن تتحقّق كلّ مفاعيل التأسيس السليم لوجود الكتلة وجوداً شرعياً صحّياً لتتحقق الغاية منه.
ومصداق ذلك قول الحقّ سبحانه:
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة 109)
ويجب أن يقًعً في علم الجماعات كلّها أنّ وجود الجماعة ليس مفروضاً لذاته ابتداءً، بل هو مفروض لعمل ولغاية، فإن تعرّض ضلعٌ من هذه الثلاثة إلى الخلل أو التشويه أو الانحراف كانت الفاجعة متحقّقةً عند الجماعة كجماعة قبل الحديث عن أفرادها وأعمالهم وانضباطهم من عدمه، وإن وقع في قلب أحدٍ من أفرادها أنه قد أسقط عن نفسه عند ربّه فرض العمل لدين الله بمجرد وجوده في هذه الجماعة أو تلك دون أن تتحققً عنده صحة الأساس والمنطلق لها فهو غاشّ لنفسه وغاشّ لمن يدّعي أمامهم أنه يعمل لهم أو معهم، وإن لم يتحقق كذلك من صحّة العمل والغاية وتوافقهما الحتمي مع صحّة المنطلق والأساس فهو بين أن يعذر بجهله أو أنه لا عذر له ولا ثالث لهما.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء حدثني يحيى بن أبي المطاع قال سمعت العرباض بن سارية يقول
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقيل يا رسول الله وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد فقال عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا وسترون من بعدي اختلافا شديدا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة ( سنن ابن ماجه)...
فإن اتفقنا على أنّ الأساس لأيّ جماعة تعمل للإسلام يجب أن يكون مؤصّلاً تأصيلاً شرعياً، من دين الله فقط وليس من سواه، وأن عملها يجب أن ينضبط كذلك بأحكام الله فلا يستقيم شرعاً ولا عقلاً أن تنضبط أعمال جماعة قامت على ذاك الأساس بضوابط عقلية أو ضوابط ليست من عند الله تعالى أو غير مؤيّدة بأدلة تنبيء عن استقامتها على دينه سبحانه، وأن تكون غايتها غاية شرعية بمعنى أن الشرع حدّدها وبيّن أعمالها ووضع ضوابطها، ثمّ بعدها لا خلاف إن اختلفت الوسائل والأساليب شريطة عدم مخالفتها في كلّية أو جزئية...وحينها فقط يقال بأنها قائمة على أمر الله تعالى، وتخضع حينها كما يخضع كلّ المسلمين لسنّة التمايز والتمييز بين الخبيث والطيّب سواء في أفرادها أو في أعمالها، وتُمتحنُ كما يقع الامتحان على كلّ المسلمين بزيادة أنها جماعة، فإن ثبتت الجماعة أمام العواصف والمحن التي تعصف بها حين عملها فبها ونعمت، أما إن حصل فيها الاهتزاز والخلخلة في ركن من أركانها وانساقت في سيرها ضمن معاني هذه الاهتزازات فإنها لم تعد حينها تلك الجماعة التي قامت على ما قامت عليه، ولا عذر لها مطلقاً إن هي غيّرت وبدّلت – ويجب أن لا يذهب التفكير إلى أن الحديث عن أساليب ووسائل هنا – ويجب عليها حينها أن تضع أفرادها وتضع الناس في صورة التغيير الذي أصاب منهجها، لا أن تستمر في تضليلهم وتزييف الحقائق أمامهم مدّعية الثبات على المنهج وصحّته، كما يجب على أفرادها الذين ما انضموا إليها إلا لسلامة أساسها وصحّة عملها وسموّ غايتها أن يقفوا عند مسؤولياتهم أمام أنفسهم وأمام جماعتهم وأمام الناس
ويقولوا الحقّ لا يخافون لومة لائم، لأن أساس عملهم مع جماعتهم كان مبتغاهم فيه رضى ربّهم سبحانه، وعملهم معها كان في أصله عبادة لله تعالى، وهذه محنة وابتلاء وهي سبب في كشف حقيقة النفوس وارتباطها بربّها سبحانه، وسموّ هذه الرابطة فوق أيّة مصلحة أو رابطة سواها، وهنا الأصل في بواطن الأفراد أن تكون كالمرجل ضغطاً وتوتّراً، وأن تكون باعثاً على تصحيح المسار أو خلعها من الربقة، أما التجاوز عن الخلل وإغماض العيون عنه بذرائع واهية مريضة من مثل: أنّ الجماعة أقدر من الأفراد، أو أنّ القادة علماء أفذاذ لا يشقّ لهم غبار، أو أنهم من الذين ضحّوا بالغالي والنفيس وضحّوا بحريتهم وأهليهم فهم أجدر بأن لا نشكك في قراراتهم أو مواقفهم وإن كان ظاهرها ينمّ بوضوح لا مراء فيه عن مخالفة فاضحة واضحة لما ادّعوا بأنه من الثوابت في غابر الزمان، فإن حصل ودخلت تلك التبريرات في نفوس الأفراد فأبشروا بما هو أعظم وأنكى من ذلك من تفلّتٍ ومخالفاتٍ، وهذا الباب العظيم كان مدخلاً سهلاً وممهّداً كي تتحوّل جماعات إسلامية في أساس ادّعائها إلى جماعات وطنيّة وقومية وتدعوا إلى العلمانية والديمقراطية وكأنها البضاعة المزجاة والتجارة الرابحة والغايات العظيمة التي يجب أن تُنشد!! ويكون مؤدّاها الحتمي خلط الحابل بالنابل حين يُدخلون على دين الله ما ليس منه ابتغاء الهوى والمصلحة، فيظهر حينها الطيّب من الخبيث والغثّ من السمين، ويطفوا على السطح ما كان قد عمل البعض على كتمانه وإخفائه عن العيون
وهنا تتحقّق معاني التمييز الرباني لكلّ مَن ادّعى يوما انه يعمل لدين الله تعالى، ولأن دين الله تعالى لا ينصره إلا من احاط به فإن من كان هذا حاله - حال التغيير والتبديل وعدم الثبات على الحقّ - لا يمكن أن يتحقق نصر على يديه، وبلوغ الخير عن طريقه بلوغٌ محال، بل وفوق ذلك ينقلبون إلى أن يكونوا عقبات كأداء أمام الطيّبين المخلصين ويسهل عليهم أن يصبحوا مطايا لغيرهم وأدوات هدمٍ وألسنةٍ شدادٍ غلاظ، مع دأبهم وإصرارهم على سردٍ تاريخٍ أوهموا الناس بأنه نضالي وبطولي ومقدّس لا يجوز أن تتناوله ألسنة العامة أو الخاصة بسوء، ويكون كلّ ذلك مبررهم لكل شائنة من أعمالهم...ويزيد غيّهم بأن يشيروا إلى القذى في عيون الناس وينسون الأشجار الباسقة التي تخرج من عيونهم حتى جعلوا منها حدائق وغابات.
فسلامة العمل من سلامة المنهج والأساس، والغايات السامية لا تتحقّق إلا بأعمال سامية،
وبين هذه وتلك لا فلاح ولا نجاح ولا غاية عظيمة تُرتجى إلا بالإخلاص الخالص للواحد الدّيان الذي به تستقيم أمور الدنيا ويُتوصّل به الى الفلاح في الآخرة، فلندرك جميعاً أن أعمالنا يجب أن تكون عبادةً لربّ العالمين، وأن الله سبحانه لا تصحّ عبادة عن جهل بل عن علم وبصيرة، وأن المغيّرين المبدّلين لشرع الله لا يكون حصادهم إلا خزي في الدنيا وإلى الله عاقبة الأمور.
يقول المولى سبحانه:
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) سورة الأنعام آية 153.
ويقول:
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) سورة فصلت آية 30.
ويقول جلّ من قائل:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)﴾ سورة النساء
وسبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.
سيف الدّين عابد
9/4/2012 م.
