عالمية رسالة الإسلام مسألة لا ينكرها مَن يُدركُ ويعي
هذه الرسالة الإلهية العظيمة، ولا يماري في هذه القضية عالية المقام
إلا جاهلٌ أو مُغرض، فهذه العالمية للرسالة قرّرها ربّ العالمين
من فوق سبع سماوات منذ بدء تنزّل الوحي على محمد صلوات ربي
وسلامه عليه، فقال جلّ شأنه:
" وما أرسلناكَ إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً "
وقال " يا أيها الناس إني رسولُ الله إليكم جميعاً "
وقال " وأوحيَ إلي هذا القرآنُ لأنذركم به ومَن بلغ"
وهذا ما كان عليه حالُ النبي صلوات الله عليه مِن تبليغٍ لهذه الرسالة
عملياً للناس أجمعين، فأرسل أربعين رجلاً إلى نجدٍ ليبلّغوا رسالة
ربهم للناس، وما تلك الرسائل والوفود التي أرسلها وأوفدها محمد
صلوات ربي وسلامه عليه إلى ملوكٍ وأكاسرةٍ وإلى القبائل في
الجزيرة وامتداداً إلى غيرها إلا تدليلاً على عالمية الإسلام
ورسالته وأنها لا تقفُ عند حدودٍ ولا تمنعها سُدود!!
فأساسُ هذه الرسالة قائمٌ على ركيزتين أساسيتين:
أولاهما: جعلُ الإسلام عملياً هو القيادة الفكرية والسياسية داخلياً
لناحية بيان وتنفيذ وتطبيق أحكام الإسلام وتنظيم العلاقات والمعاملات
وإقامة الحدود وتنفيذ العقوبات وحفظ المنظومة الأخلاقية بين الرعية
وضمان القيام بالشعائر والعبادات على وجهها... وهذه هي الرعاية
العملية لشؤون الرعيّة حسب شريعة ربّ العباد.
ثانيهما: حملُ الرسالة الربانية إلى خارج المحيط الداخلي لدولة
الإسلام تجسيداً لمعنى العالمية، بالدعوة والجهاد، فهذه الفكرة
هي فكرةٌ ثابتةٌ آكدة لا تتغيّر ولا تتبدّل، وهذا هو الأساس الذي
تقوم عليه السياسة الخارجية للدولة الإسلامية. وهذا الأساسُ
غيرُ متعلّقٍ بالأشخاص القائمين على الحكم وجوداً أو عدماً،
مهما تغيّروا أو تبدّلوا، إذ أنّ الأمر متعلّقٌ بالرسالة ذاتها، وبجوهرها،
لا بمَن يعتنقها أو ينفّذها إذ الواجبُ على معتنقيها ومنفذيها أن
يلبّوا جوهرَها والغايَة منها، وأن يُحسنوا حملها وتطبيقها، فإن
أساؤوا فذاك وزرهم، وإن أحسنوا كانوا على النهج القويم الذي
رسمه لهم صاحبُ هذه الشريعة التي أمِروا أن ينشروها في العالمين.
فناحية السياسة الداخلية كما الخارجية وتلازُمهما ولُزومهما هي ما
يعكسُ صحّة الفهم للإسلام عند المسلمين وعند كيانهم، كما يعكسُ
صحّة فهمهم لمعنى وجود الكيان السياسيّ وهو الدولة الإسلامية
وعظيم أهميته.
والجهالة الحاصلة عند نسبة من المسلمين وكذا عند جماعاتٍ
إسلامية اليوم لناحية فهم طبيعة الإسلام السياسية أدّت إلى
انحطاطٍ كبيرٍ في معاني تطبيق الإسلام بين المسلمين ومعاني
الحملٍ العالمي لهذه الرسالة.
فمن ناحية الانحطاط في فهم معاني حملِ وتطبيق الإسلام بين
المسلمين اليوم:
أن أصبحت أحكام الله تعالى حملاً وتطبيقاً محلّ جَدَلٍ وأخذٍ وردّ
واجتهاد في غير محلّه، وأضحت أحكامُ الله تعالى مبهمةً عندهم
غيرَ واضحةٍ بحيث دخل عليها من غيرها – بقصدٍ أحياناً
وبجهالةٍ أحياناً أخرى – ما جعل الخلطَ حاصلاً عند العامّة
منهم ونسبة من الخاصّة، فمثلاً:
عندما تدخل معاني الديمقراطية والدولة المدنية والعَلمانية في
أذهان الناس وبعض الخاصّة مدخلاً سهلاً ميسوراً وتُقابلُ
بالقبول والرضى وهي في أصلها، في ابتدائها وانتهائها، جزئياتها
وكلّياتها مستوردة استيراداً قبيحاً من منظومة سياسية وفكرية
وعقدية غير إسلامية، ونرى في الوقت ذاته محاولةً للتقريب
بينها وبين الإسلام بصفاقة وغوغائية نقول حينها أنّ هناك
معضلة آكدة في فهم الإسلام فهماً يتوافق مع نقائه وصفائه
ووضوحة!!
لاجدالَ بين العلماء الربانيين ولا خلاف – كما لا يصحّ أن
يكون عند غيرهم - أنّ الإسلام أنزله وفرضه الرحمن لهداية
الأنام، ولإخراجهم من الضلال إلى الرشاد، ومن عبادة غير الله
تعالى إلى عبادته وتوحيده وتمجيده، وأنه رسالة عالمية منذ
لحظة فرضها من ربّ العباد، وأن الإسلام إذا أريدَ له أن
يُطبّق فلا بدّ له أن يحكم، وأن يكون قيادة فكرية وسياسية
قائمة على أساس عقديّ متين وقاعدة مبدئية صلبة لا تتزعزع
فضلاً عن أن تتغيّر أو تتبدّل أو يُضافُ عليها أو ينتقصُ منها،
فهي في كلّياتها وجزئياتها من عند فاطر السماوات والأرض
وحده لا من عند البشر وعقولهم القاصرة!!
ولا خلاف كذلك أنّ الإسلام هو ما جاء به الوحي الأمين،
وما فرضه ربّ العالمين، وأنّ ما كان من عنده سبحانه فهو
شرع وما كان من عند غيره – كائناً (مَن) كان أو (ما) كان –
طاغوت وباطل، وأن خيرية أمّة محمد صلوات ربي وسلامه
عليه لا تكون إلا بقيامها بأمر ربّها وعلى أمر ربّها وبالتزامها
بما جاء فيها من غير تبديل ولا تغيير وبحملها رسالة للعالم
بياناً وتبليغاً.
وما حصل التخلف في فهم طبيعة الإسلام النقيّ والتخلّف في فهم
معنى القيادة والسيادة العالمية للإسلام إلا بعد أن تمّ تغييبهُ كقيادة
سياسية للمسلمين بهدم دولة الإسلام – رغم ما شابها في بعض
عصورها من ضعف ليس المجال بحثه الآن- فأصبحت السياسة
عند جلّ الجماعات العاملة هو فنّ الممكنات والحصول على ما
تيسّر من منافع ومنافذ للعمل السياسيّ ضمن المنظومة السياسية
الحاكمة في بلادنا، وهذا عامل آخر وعلى درجة من الأهمية من
عوامل الجهل والتجهيل لمعنى حاكمية الإسلام وقيادته الفكرية
والسياسية!!
ومنذ أن هُدِمَت دولةُ الإسلام العظيم حتى يومنا هذا تمّ تطبيقُ
المنظومة السياسية وحتى الفكرية لأنظمة لا علاقة لها بدين الله،
بل هي على نقيضه ومحلّ صراع معه، وغاب الإسلام عن الأذهان
غياباً شبه تامٍ وغاب عن حياة المسلمين غياباً كليّاً، فما عاد هو
المعمول به ولا المطبّق عليهم، وتمّ زرعُ بذور الثقافات الخبيثة
الطاغوتية المنشأ والغاية القائمة على أساس فصل الدين وسلخه
عن الحياة بشكل خبيث ودؤوب، كما تمّ العمل على إنتاج وصناعة
الإسلام المعتدل صاحب النظرات التوفيقية بين ما هو من الإسلام
وبين ما هو ليس منه، المتصالح مع مفاهيم غربية ينكرها شرعُ
ربّنا وأفكارٍ لا علاقة لها بعقيدتنا ولا منظومتنا الفكرية والسياسية
المبنية على توحيد الألوهية والربوبية...وكان من ثمار ذلك كلّه
وأدُ الإسلام السياسيّ الصحيح والفاعل وأنظمته وأحكامه،
وسحقُ الأمّة الإسلامية وقيمتها وحضارتها ورسالتها!!
إنّ مَن يريدُ العملَ للإسلام لا بدّ له بداية من أن يفهم الإسلام
ورسالته، وأن يدركَ أنه لن يكون إسلاماً إن تمّ سلخُ أحكامٍ
منه أو تغييرها أو إحلالُ غيرها محلّها، وأن يُدركَ أنّ الإسلام
لا يصفه ولا يبينه إلا مَن فرضه، وأنه عبارة عن منظومة
كاملة متكاملة مكوّنة من جميع أنظمته وأنها مترابطة مع بعضها
بنَسَقٍ شرعيّ مضبوطٍ، وهذه السلسلة يأخذ بعضُها برِقابِ
بعض، فحيثما حصل الخلل في حلقة من حلقاتها تأثّرت
منظومتها واضطربت!!
فلا إحلال ولا إزاحة ولا تعطيل ولا تغيير ولا تسويف
ولا تدرّج!!
فما أن يبدأ المسلمون عيشهم في ظلّ شريعة ربّهم عيشاً
طبيعياً صحّياً إلا وتتالى أحكام الله ارتباطاً وانسجاماً وتكاملاً.
لذا، فإنّ العاملين للإسلام ولدولة الإسلام – إن صدقوا مع
أنفسهم وخالقهم – لا بدّ لهم حتماً من أن يقفوا على كلّ تلك
المعاني فهماً للإسلام وطبيعته وفهماً لمعاني القيادة السياسية
له المبنية على قاعدته الفكرية الصحيحة الواضحة، وبدون
هذا الفهم والوعي بكلّ تفصيلاته – لِعِظَمِ المسألة – بكلياته
وجزئياته فلا يمكن أن يكون عملهم شرعياً وصحيحاً
ومنضبطاً– وإن أخلصوا النيّة – ولا يمكن أن تكون ثمارُهُ
–إن أثمَر- طبيعية مشروعة!!
فالفهم والإدراك والوعي سابقٌ للعمل، فإن لم يسبقهُ تاهَ العاملون
في غياهب قواعد العمل وأصوله وفي تلاطم أمواج الأفكار
وتصارعها وشراستها، فلا يدرون حينها على أيّ أرض تقف
أقدامُهُم، ولا من أيّ أساس ينطلقون، ولا يدرون ما يأخذون
أو يذرون، خاصة إن كان مسعاهم هدفه الوصول للحكم
وليس أن يصل الإسلام ذاته – عقيدته ومنهاجه – للحكم!!
فكفاحيّة هذه العقيدة ووضوحها وصلابتها وعدم قبولها إلا
بما كان من عند الله جزءُ لا يتجزّأ من ذاتها وطبيعتها،
كما الصفات (الجينيّة ) للمخلوق هي جزءٌ منه لا تتجزّأ،
فإن حاول سلخها أو التلاعب فيها بتغيير أو تبديل أو
إضافة أو إنقاص يكون قد خرج عن طبيعة منظومتها
وأخلّ بها إخلالاً يشقى به فتصيبه الويلات والأمراض
والاضطرابات من كلّ جانب...وكذا هي العقيدة ومنظومتها
الفكرية والسياسية لناحية ترابطها وصحّتها وكفاحيتها التي
هي جزء منها لا تنفكّ أبداً، وهذا يعني من جملة ما يعني:
أنّ الإسلام قائم بذاته ولذاته كما قرّره له الله أن يكون،
لا يقبل تغييراً ولا تبديلاً ولا يخضع لمهادنة ولا لتقية
ولا لأنصاف حلول ولا التقاء في مناطق رمادية بين
ما هو من عند الله وما هو طاغوت.
هذه المعاني يفهمها الغرب تمام الفهم، ويبني عليها محاربته
للإسلام وأهله لأنه فهمها، ويحاول إنشاء إسلامٍ بحسب
مواصفاته ليحارب طبيعة الإسلام النقي هذا، فهم فهموا
معنى الإسلام، ومعنى قيادته الفكرية والسياسية، وفهموا
أن تضليل الناس في هذه الزاوية الحيوية أمر يعينهم على
تأخير وصول الإسلام وأهله إلى غايتهم، ومما يندى له
الجبين أن يجدوا مآربهم فيمن يحملون الإسلام حملاً
مشاعرياً صرفاً دون فهم ووعي وإدراك، فجعلوهم مطيّة
لهم يحاولون من خلالهم تحقيق مآربهم ...
لكن وعد الله ناجز، وأمره متحقّق، ونصرُ دينه
قريب قريب يعود معه الإسلام سيّداً في أرض الله،
هو القائد الفكري والسياسيّ والذي تخضع لعظمته الرقاب
وما ذلك على الله بعزيز.
ودين الله سبحانه وتعالى لا ينصره إلا مَن أحاط به من كلّ جوانبه
ودين الله سبحانه وتعالى لا ينصره إلا مَن أحاط به من كلّ جوانبه
والحمد لله ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق